فصل: تفسير الآيات (30- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (30- 40):

{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
{إلى ربك يومئذ المساق} أي مرجع العباد إلى الله تعالى يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم.
قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} يعني أبا جهل لم يصدق بالقرآن، ولم يصلِّ لله تعالى: {ولكن كذب وتولى} أي أعرض عن الإيمان والتصديق {ثم ذهب إلى أهله يتمطى} أي يتبختر ويختال في مشيته، وقيل أصله يتمطط أي يتمدد من المط، وقيل من المطا وهو الظهر لأنه يلويه. {أولى لك فأولى} هذا وعيد على وعيد من الله تعالى لأبي جهل. وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد ومعناه، ويل لك مرة بعد مرة وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه، وقيل معناه أنك أجدر بهذا العذاب. وأحق وأولى به. يقال ذلك لمن يصيبه مكروه يستوجبه قال قتادة: ذكر لنا «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال أبو جهل أتوعدوني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً وإني لأعز من مشى بين جبليها فلما كان يوم بدر صرعه وقتله أشد قتلة. وكان نبي الله يقول صلى الله عليه وسلم «إن لكل أمة فرعوناً وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} أي هملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب في الآخرة {ألم يك نطفة} أي ماء قليلاً {من مني يمنى} أي يصيب في الرحم، والمعنى كيف يليق بمن خلق من شيء قذر مستقذر أن يتكبر ويتمرد عن الطاعة. {ثم كان علقة} أي صار الإنسان علقة بعد النطفة {فخلق فسوى} أي فقدر خلقه وسواه وعدله وقيل نفخ فيه الروح وكمل أعضاءه {فجعل منه} أي من الإنسان {الزوجين} أي الصنفين ثم فسرهما فقال {الذكر والأنثى} أي خلق من مائة أولاداً ذكوراً وإناثاً {أليس ذلك} أي الذي فعل وأنشأ الأشياء أول مرة {بقادر على أن يحيي الموتى} أي بقادر على إعادته بعد الموت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ منكم {والتين والزيتون}، فانتهى إلى آخرها {أليس الله بأحكم الحاكمين} فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: {لا أقسم بيوم القيامة} فانتهى إلى {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}، فليقل بلى ومن قرأ: {والمرسلات} فبلغ: {فبأي حديث بعده يؤمنون} فليقل آمنا بالله» أخرجه أبو داود وله عن موسى بن أبي عائشة قال: «كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال سبحانك بلى فسألوه عن ذلك فقال سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم» والله سبحانه وتعالى أعلم.

.سورة الإنسان:

.تفسير الآيات (1- 2):

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)}
قوله عز وجل: {هل أتى} أي قد أتى {على الإنسان} يعني آدم عليه الصلاة والسلام {حين من الدهر} يعني مدة أربعين سنة وهو من طين ملقى.
(م) عن أنس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلف لا يتمالك» قوله يطوف أي يدور حوله فلما رآه أجوف أي صاحب جوف وقيل هو الذي داخله خال قوله عرف أنه خلق لا يتمالك، أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب.
وروي في تفسير الآية أن آدم بقي أربعين سنة طيناً، وبقي أربعين سنة حمأ مسنوناً وأربعين سنة صلصالاً كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة {لم يكن شيئاً مذكوراً} أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه، ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئاً ولم يكن شيئاَ يذكر.
روي عن عمر أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية: لم يكن شيئاً مذكوراً فقال عمر ليتها تمت يعني ليته بقي على ما كان عليه ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهم بنو آدم بدليل قوله: {إنا خلقنا الإنسان} فالإنسان في الموضعين واحد فعلى هذا يكون معنى قوله حين من الدهر طائفة من الدهر غير مقدرة لم يكن شيئاً مذكوراً يعني أنهم كانوا نطفاً في الأصلاب. ثم علقاً، ومضغاً في الأرحام لم يذكروا بشيء إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم {من نطفة} أي مني الرجل ومني المرأة {أمشاج} أي أخلاط قال ابن عباس وغيره: يعني ماء الرجل، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب، وعظم فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، وقيل الأمشاج اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء. وكل لونين اختلطا فهو أمشاج. وقال ابن مسعود: هي العروق التي تكون في النطفة، وقيل هي نطفة مشجت أي خلطت بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت المرأة ارتفع دم الحيض، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظما ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر، وقيل إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطاً من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فعلى هذا يكون التقدير من نطفة ذات أمشاج. {نبتليه} أي لنختبره بالأمر والنهي {فجعلناه سميعاً بصيراً} قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، وقيل معناه إنا خلقنا الإنسان من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز وقيل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان، وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها.

.تفسير الآيات (3- 5):

{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)}
{إنا هديناه السبيل} أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرفناه طريق الخير والشر، وقيل معناه أرشدناه إلى الهدى لأنه لا يطلق اسم السبيل إلا عليه والمراد من هداية السبيل نصب الدلائل، وبعثه الرسل وإنزال الكتب. {إما شاكراً وإما كفوراً} يعني إما موحداً طائعاً لله، وإما مشركاً بالله في علم الله وذلك أن الله تعالى بين سبيل التوحيد ليتبين شكر الإنسان من كفره، وطاعته عن معصيته، وقيل في معنى الآية إما مؤمناً سعيداً وإما كافراً شقياً. وقيل معناه الجزاء أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر، وقيل المراد من الشاكر الذي يكون مقراً معترفاً بوجوب شكر خالقه سبحانه وتعالى عليه، والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ثم بين ما للفريقين فوعد الشاكر، وأوعد الكافر فقال تعالى: {إنا أعتدنا} أي هيأنا في جهنم {للكافرين سلاسل} يعني يشدون بها {وأغلالاً} أي في أيديهم تغل بها إلى أعناقهم {وسعيراً} يعني وقوداً لا توصف شدته وهذا من أعظم أنواع الترهيب والتخويف ثم ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال تعالى: {إن الأبرار} يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، واحدهم بار وبر وأصله التوسع فمعنى البر المتوسع في الطاعة {يشربون من كأس} يعني فيها شراب {كان مزاجها كافوراً} قيل يمزج لهم شرابهم بالكافور ويختم بالمسك.
فإن قلت إن الكافور غير لذيذ، وشربه مضر فما وجه مزج شرابهم به.
قلت قال أهل المعاني: أراد بالكافور بياضه، وطيب ريحه وبرده. لأن الكافور لا يشرب وقال ابن عباس: هو اسم عين في الجنة والمعنى أن ذلك الشراب يمازجه شراب ماء هذه العين التي تسمى كافوراً، ولا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم ضرر فيما يأكلون، ويشربون وقيل هو كافور لذيذ طيب الطعم ليس فيه مضرة، وليس ككافور الدنيا ولكن الله سمى ما عنده بما عندكم بمزج شرابهم. بذلك الكافور والمسك والزنجبيل.

.تفسير الآيات (6- 9):

{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)}
{عيناً} بدلاً من الكافور وقيل أعني عيناً {يشرب بها} أي يشرب منها {عباد الله} قال ابن عباس أولياء الله {يفجرونها تفجيراً} أي يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيراً سهلاً لا يمتنع عليهم.
قوله تعالى: {يوفون بالنذر} لما وصف الله تعالى ثواب الأبرار في الآخرة وصف أعمالهم في الدنيا التي يستوجبون بها هذا الثواب والمعنى كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب. والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الأيمان والصلاة، والزكاة والصوم والحج، والعمرة، وغير ذلك من الواجبات، وقيل النذر في عرف الشرع واللغة أن يوجب الرجل على نفسه شيئاً ليس بواجب عليه، وذلك بأن يقول: لله عليَّ كذا وكذا من صدقة أو صلاة أو صوم أو حج أو عمرة يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله. وذلك بأن يقول إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي كان لله عليَّ كذا، ولو نذر في معصية لا يجب الوفاء به.
(خ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به» وفي رواية «فليطعه ولا يعصه» وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
(ق) عن ابن عباس قال: «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها» أخرجه الجماعة. وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر، وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفى. {ويخافون يوماً كان شره مستطيراً} أي منتشراً فاشياً ممتداً، وقيل استطار خوفه في أهل السموات والأرض، وفي أولياء الله وأعدائه، وقيل فشا سره في السموات. فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس، والقمر، وفي الأرض فتشققت الجبال وغارت المياه وكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته.
قوله عز وجل: {ويطعمون الطعام على حبه} أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فوصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام، ويواسون به أهل الحاجة، وذلك لأن أشرف أنواع الإحسان والبر إطعام الطعام. لأن به قوام الأبدان، وقيل على حب الله عز وجل أي لحب الله {مسكيناً} يعني فقيراً وهو الذي لا مال له ولا يقدر على الكسب {ويتيماً} أي صغيراً وهو الذي لا أب له يكتسب له، وينفق عليه {وأسيراً} قيل هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين، وقيل هو الأسير من أهل الشرك.

.تفسير الآيات (10- 16):

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)}
{إنا نخاف من ربنا يوماً} يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم {عبوساً} وصف ذلك اليوم بالعبوس مجازاً كما يقال نهاره صائما والمراد أهله والمعنى تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة. {قمطريراً} يعني شديداً كريهاً يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس، وقيل العبوس الذي لا انبساط فيه، والقمطرير الشديد، وقيل هو أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء {فوقاهم الله شر ذلك اليوم} أي الذي يخافونه {ولقاهم نضرة} أي حسناً في وجوههم {وسروراً} أي في قلوبهم {وجزاهم بما صبروا} أي على طاعة الله واجتناب معصيته، وقيل على الفقر والجوع مع الوفاء بالنذر والإيثار {جنة وحريراً} أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير {متكئين فيها} أي في الجنة {على الأرائك} جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولا تسمى أريكة إلا إذا اجتمعا {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} يعني لا يؤذيهم حر الشمس، ولا برد الزمهرير كما كان يؤذيهم في الدنيا والزمهرير أشد البرد وحكى الزمخشري قولاً أن الزمهرير هو القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيئ وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر

والمعنى أن الجنة ضياء لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر {ودانية عليهم ظلالها} أي قريبة منهم ظلال أشجارها {وذللت} أي سخرت وقربت {قطوفها} أي ثمارها {تذليلاً} أي يأكلون من ثمارها قياماً وقعوداً ومضطجعين، ويتناولونها كيف شاؤوا وعلى أي حال أرادوا. {ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب} قيل هي الكيزان التي لا عرى لها كالقدح ونحوه {كانت قواريرا قواريرا من فضة} قال أهل التفسير أراد بياض الفضة في صفاء القوارير وهو الزجاج، والمعنى أن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج، والمعنى يرى ما في باطنها من ظاهرها، قال الكلبي: إن الله تبارك وتعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإن أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها، وقيل إن القوارير التي في الدنيا من الرمل والقوارير التي في الجنة من الفضة، ولكنها أصفى من الزجاج. {قدروها تقديراً} أي قدروا الكؤوس على قدر ريهم، وكفايتهم لا تزيد ولا تنقص. والمعنى أن السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها لهم ثم يسقونهم.

.تفسير الآيات (17- 21):

{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}
{ويسقون فيها} أي في الجنة {كأساً كان مزاجها زنجبيلاً} قيل إن الزنجبيل هو اسم للعين التي يشرب منها الأبرار يوجد منها طعم الزنجبيل يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لسائر أهل الجنة، وقيل هو النبت المعروف، والعرب كانوا يجعلون الزنجبيل في شرابهم لأنه يحصل فيه ضرب من اللذع قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبي ** ل باتا بفيها وأرياً مشورا

الأري العسل والمشور المستخرج من بيوت النحل وقال المسيب بن علس:
فكأن طعم الزنجب ** يل به إذ ذقته سلافة الخمر

فلما كان الزنجبيل مستطاباً عند العرب وصف الله تعالى شراب أهل الجنة بذلك، وقيل إن شرب أهل الجنة على برد الكافور، وطعم الزنجبيل وريح المسك قال ابن عباس: كل ما ذكر الله تعالى في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا، وذلك لأن زنجبيل الجنة لا يشبه زنجبيل الدنيا {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} أي سلسلة منفادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا وقيل حديدة الجرية سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليها في طرقهم، ومنازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان، وقيل سميت بذلك لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ومعنى تسمى أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم {ويطوف عليهم ولدان مخلدون} أي في الخدمة وقيل مخلدون مسرورون ومقرطون {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} يعني في بياض اللؤلؤ الرطب وحسنه، وصفائه، واللؤلؤ إذا انتثر على البساط كان أصفى منه منظوماً، وقيل إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة.
قوله عز وجل: {وإذا رأيت} قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل لكل واحد ممن يدخل الجنة والمعنى إذا رأيت ببصرك ونظرت به {ثم} يعني إلى الجنة {رأيت نعيماً} أي لا يوصف عظمه {وملكاً كبيراً} قيل هو أن أدناهم منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه وهو استئذان الملائكة عليهم وقيل معناه ملكاً لا زوال له ولا انتقال {عاليهم} أي فوقهم {ثياب سندس خضر} وهو مارق من الديباج {وإستبرق} وهو ما غلظ منه وكلاهما داخل في اسم الحرير {وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} يعني طاهراً من الأقذار والأردان لم تمسه الأيدي، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا وقيل إنه لا يستحيل بولاً، ولكنه يستحيل رشحاً في أبدانهم كرشح المسك، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور فيشربون منه فتطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحاً يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم وتعود شهواتهم، وقيل الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد.